يصلي داود النبي هكذا:يا رب, علمنا أن نحصي أيامنا فتبلغ الحكمة قلوبنا (مزمور90:12). ذات يوم طلب أحد الأشخاص مقابلة المأمون, ليعرض عليه ما وصل إليه من مهارة وبراعة, وبكل ترحاب سمح له بالدخول, وبعد التحية والسلام بدأ الرجل في تصويب إبرة تجاه الحائط فغرزت فيه, ثم فعل ذلك بخمسين واحدة أخري علي التوالي, حتي أن كل واحدة كانت تصيب في ثقب التي سبقتها. ومما لا شك فيه أنه نال إعجاب المنصور بمهارته في التصويب, لذلك أمر بصرف مائة دينار ومائة جلدة له, فارتعب الرجل! لقد فهم سبب المكافأة, لكنه لم يستوعب مغزي العقوبة. فقال له المنصور: مكافأة الدنانير لبراعتك, وأما الجلدات نتيجة إهدارك للوقت في أشياء لا نفع منها!. كم من أمثال هذا الشخص يعيشون بيننا, وكل شاغلهم الأول تضييع وإهدار الوقت في أحاديث أو أعمال لا طائل منها! كم من الأطفال والشباب الموهوبين والذين يبشرون بمستقبل باهر لبلادهم ولعائلاتهم ولأنفسهم, لما يتحلون به من ذكاء ومواهب وهبات منحهم إياها الله, وبالرغم من أن والديهم ومعلميهم يوفرون لهم الفرص المؤاتية لتساعدهم علي استغلال هذه الإمكانيات واستثمارها, إلا أنهم يفضلون اللهو وإضاعة الوقت بدلا من العمل الجاد والحصول علي نتائج إيجابية, ثم ينطفئ ذكاؤهم وتموت مواهبهم, ومن الصعب العودة للوراء لتنميتها. إن الله يهيئ لنا كل يوم فرصا عظيمة لا حصر لها, من أجل تكوين شخصيتنا القوية والعاملة والمنتجة, وتنمية مواهبنا وإمكانياتنا في كل لحظة, لأن كل يوم نبدأه هو ميلاد عزيمة جديدة لتقوية الذات, ومغامرة فريدة لاكتساب خبرات جديدة, وفرصة عظيمة لنضجنا, ونبتة جديدة في جوهر شخصيتنا. لذلك يجب علينا ألا نضيع الفرص والأوقات الموجودة بين أيدينا, لأنها لن تعوض أبدا, مهما سعينا إلي إعادتها. كما يجب أن نعزم عزما صادقا بأنه بداية من اليوم, علينا أن نتعلم شيئا جديدا, وأن نجرب كل يوم خبرة جديدة. وبداية من اليوم, سوف نستمتع بكل لحظة تمر علينا ونسير خطوة بخطوة للأمام. كما أنه ليس مسموحا للإحباط أن يفسد صورتنا الإيجابية عن أنفسنا ورغبتنا في النجاح, وقدرتنا علي الحب. بداية من اليوم, سوف نجدد إيماننا وثقتنا بالناس, وننسي ما حدث في الماضي, لأن لدينا إيمانا بأن المستقبل سوف يكون أفضل بكثير. بداية من اليوم, سوف نفتح عقولنا وقلوبنا لقبول كل تجربة جديدة, وكلنا ثقة بأننا سنتقابل مع أناس جديدة. ولن نتوقع من الآخرين أو من أنفسنا الكمال, فالكمال ليس ممكنا في عالم ليس كاملا, ولكننا سوف نشجع كل محاولة للتغلب علي نقاط ضعف أي إنسان. بداية من اليوم, سوف يكون كل شخص منا هو المسئول الأول عن نجاحه أو فشله نتيجة ادخار أو إهدار الوقت الموجود في متناول يديه, كما أننا مسئولون عن سعادتنا الشخصية. بداية من اليوم, سوف نتمتع بمذاق كل شئ منحنا إياه الله, من إمكانيات ومواهب ونعم وعطايا, لكي نحصل علي نتائج إيجابية لخير الآخرين وخيرنا. وكما يحثنا القول المأثور:إذا ما مضي يوم ولم أكتسب أدبا… ولم أستفد علما, فما ذاك من عمري.لقد اعتاد الكثيرون منا أن يفقدوا اليوم من بين أيديهم, أو يقضونه وأعينهم وتفكيرهم في المستقبل, أو عندهم حنين للماضي, لكننا جميعا مدعوون أن نستغل اليوم لنجني ثماره الدفينة وقوته الداخلية وفوائده المرجوة. كم من المرات التي نجد فيها العديد من الأشخاص الذين لا يقدرون اليوم الموجود بين أيديهم, أو اللحظات التي تعود عليهم بالخير عندما يستثمرونها, لكنهم يتطلعون إلي حلم المستقبل, وأحيانا يشتاقون إلي ماض ولي؟ وخبرة الحياة تظهر لنا بأن التطلع للمستقبل دون الاهتمام بالحاضر, يولد عدم رضا وخيبة أمل, لأن المستقبل الحقيقي ينمو من اليوم ومما زرعناه في الحاضر. كما أن الحنين للماضي يولد كسلا وخمولا وإحباطا وحسرة, وعلاوة علي ذلك, نعيش اليوم دون أن نقدر قيمته الحقيقية, ونحياه بطريقة عشوائية ونشغل وقتنا بأمور لا جدوي فيها. كل هذه الأشياء تعوقنا عن استثمار الوقت في معناه الجوهري. فاليوم هو عنصر ثري ومتعدد الفوائد, كما أنه خير وسيلة لتأمين مستقبل باهر باستغلال مواهبنا. ونختم بالحكمة القائلة:احفظ اليوم, لأن الأمس ما هو إلا حلم, والغد رؤيا فقط. لكن اليوم إذا قضيناه كما يجب, سيجعل من كل أمس حلما للسعادة, ومن كل غد شعلة أمل ورجاء, إذا حافظ علي اليوم بقدر المستطاع.